أفكر بالبحر كثيراً هذه الأيام، رغم أنني لم أزره من قبل، وحتى لم أقترب منه، غير أنني أفكر بالبحر: بالسواحل، بالأقدام المبللة، بغروب صامت هناك.
أفكر كثيراً بالبحر، لأنه موجود دائماً، غير مهدد بالزوال، لن يغير أحد مساره، لن أفتح نافذة البيت وأجد البحر اختفى، أو قلّت مياهه، هو في مكانه: واسع وممتد وعميق.
أفكر بالحقول الشاسعة، بالجبال التي في مكانها منذ الأزل، وبالبحر.. ليالي طويلة أمضيتها أتخيل البحر ومسرّة أنه في مكانه، أن أتابع الغروب بصمت، وأترك البحر مطمئنة أن الشمس ستشرق عليه من دون أن يتغير شيء في المشهد، سأغيب أنا، أختفي، لكن البحر بأمواجه غير المكترثة بأحد، سيظل.
أفكر بالبحر الذي لا يشبه الأنهار التي في حياتي، تلك التي تهددنا الحياة بتسرّبها من بين أيدينا، أفكر بالبحر الذي لا يشبه الأبنية التي ضاعت، ولا الشوارع التي تغيرت، ولا المدن التي لا يظل شيء فيها على حاله دون أن يمسّه الانهيار بناره.
المدن تتداعى، والنهر الذي أحاول ألا أتابع أخباره يلاحقني قلقاً طوال اليوم، فأفكر بالبحر. من لا يفكر بالبحر؟ تتبدل الأماكن، تنمسخ الدروب، وتشيخ المدن شيخوخة مريض يتداعى جسده وتتناثر أعضاؤه من دون نظرة شفقة من أحد، ومن ظننا أن بقاءه إلى الأبد، ضيعت طرق الحياة وجهه، فأتذكر البحر، وأفكر به، بكل ما هو ثابت في مكانه، بكل ما لا تستطيع الأيدي أن تمتد وتمحوه فجأة، بكل ما هو أقوى من هذه البلدان التي نعيش فيها ونشاهد لحظة بلحظة كيف تسّاقط من حولنا، ومن تحتنا، ومن بين أيدينا، وفوق رؤوسنا.
فأتذكرُ البحر
في كل موسم جديد، أتوق لكل ما اعتدت عليه منذ الطفولة: فواكه، مصنوعات يدوية، أدوية شعبية مصنوعة من جذور الأشجار، طعام غريب يأتي من قرى بعيدة، ورغم أنني قد لا آكل أو أجرب إلا القليل منها، لكن غيابها يعذّبني، وحضورها طمأنينة، فيصير هذا أهم ما يشغلني: أن أراها أمامي وأسهم في بقائها بيد تتمنى، ففي بلدان يتداعى كل ما فيها وتمحى تفاصيلها: الأرض، والناس، والنهر، يكون ما يستطيع النجاة نجاةً لي أيضاً، كل ما يقاوم، ويثبت، يدفعني لأؤمن قليلاً بأن هناك من سيستطيع الإفلات من وحشية التفتت.
أفكر كثيراً بالبحر هذه الأيام، لأنه في مكانه، وكل شيء من حولي يزول.