أريد أن أنطلق مثل كاروغو *، سريعةً، لا أخافُ، غير أنني حذرة، لا أتلفّت يميناً ولا شمالاً، أريد أن أنطلق مثله كما انطلق ذات يوم في كينيا، مسرعاً، يهرّب البضائع التي كانت بريطانيا تمنع تنقّلها بين المدن، غير أنني، أريد أن أنطلق مثله، لأهرّب الكلمات. وأعرف، مثلما كان كاروغو يعرف، بأنه لابد وأن يُمسك في النهاية، والكلمات هنا، هي طريقة لكي يُمسك بي، ولا بأس في ذلك.
(1)
يقول اليعقوبي (القرن 3 هـ/ 9 م) “وذكرت بغداد لأنها المدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها سعةً وكبراً، وعمارة، وكثرة مياه، وصحة هواء”
(2)
يمتد الطريق بإشاراته أمام ناظري، وأنا أجلس عكس اتجاه السير في الحافلة، وبغداد التي يتصارعون عليها – كلهم – هنا، أتأملها، تخنقها الأصوات والرايات والصور التي تصيبها قطعاً بدوار غير منتهٍ، هل مرت بغداد بما تمر به الآن، من قبل؟
ليست بغداد مدينة يمكنك أن تقول عنها: مدينة لا تبالي بما جرى ويجري فيها، إنها تبالي، في كل خطوة تدرك أنها مدينة يُضغط على جسدها المرهق بلا انتهاء، تخنق، وتسيل منها دماء تتقاسمها الشوارع.. بغداد مدينة تكترث، جربت الحزن وحزنت طويلاً، إنها لا تكاد تتذكر مسرّتها إلا في خفقات متباعدة، والأمر ليس أنها هي التي تسرّ، فهي تقدم المسرّة لنا نحن، نحن الذين نعيش فيها، تقدمها في إشارات صغيرة، تفتح في القلب نوافذ لا حد لاتساعها.
نوافذها تشرعها لي حين أغمض عينيّ عن كل ما لا يسرّ فيها، كأنها تقول لي: يمكنك التخلّي عن عينيك اللتين تتبعان الدموع والحزن والأكف التي أيبستها الشمس ورحيل الأحبة، وتلاحقان أثر القبضات والسكاكين والفوهات، يمكنك أن تغمضي عينيك، وسأقدم لك مسرّة صغيرة، صغيرة لكنها تستمر معك حين تفتحين عينيك مرة أخرى، فتخفف عنك حزن الطريق والمدينة والناس، وتجعلك تتقبلين المدينة، أن لا تكرهينها تماماً..
فتجيء المسرّة إذن، حين أتوه في طريق فأكتشف فيه مباهج تشبه بغداد التي لم تتسع لبهائها ألف ليلة وليلة، حين يضيّعني سائق السيارة في الدرابين الضيقة، فتدهشني بيوت حافظت على الحكاية نفسها دون تغيّر، ووجوه كأنها تعرف كل شيء، ففي حزن قسماتها سعادة شفيفة، سعادة من عرف ولم يعد يبالي، وفي اللحظة التي يقول لي فيها رجل مسن كلمة حلوة، لأنني فتحت له باباً، أو أمسكت يده لأعبر معه الشارع.
هذه مسرات بغداد الصغيرة التي تمسح بها حزن عينيّ المفتوحتين، تستلّها لي من سياقها الحزين، وتضعها أمامي وحدها، لأرى ضحكة خالصة.
(3)
لمن هذه المدينة العجيبة؟
“إن إشارات اليعقوبي للسكان تبدأ بأيام المنصور وتنتهي بأيامه (القرن 3 هـ 9 م) ويذكر أن بغداد سكنها أصناف الناس، وأهل الأمصار والكور، وانتقل إليها من جميع البلدان”
(4)
عشت سنوات قليلة فيها، وخلالها لم أتوقف عن رؤيتها نعمةً تامة؛ فعلى ما فيها من نحول وضياع وتشوّه، وعلى ما فيها من قسوة وحشيّة، تظل بغداد نفسها هذه التي أسير فيها اليوم من مكان إلى آخر، هي التي سار فيها ملايين قبلي، بأرواحهم وعقولهم الفريدة..
التفكير في هوياتهم له لذة لا تشبه غيرها، فكّر قليلا بالذين كانوا هنا، بالذين التقت خطاي بخطاهم مرة، من لا يعرف شاعراً كان فيها؟ عالما أو خليفة؟ ماجنا أو عاشقا؟ حين أفكر بواحد فقط، وليكن أبا نؤاس الذين أحب مجونه وصدقه، بأنني أسير حيث سار مرة، في الشارع الذي سمي باسمه، وقرب يده التي تحمل الكأس، يكفيني هذا مسرّة تظل العمر كله.. هذه مدينة الشعر الخالدة، فالشعر فيها مثل دجلة: وجوده بداهة، وغيابه، غيابه غير متصوّر.
لكن، مرة أخرى.. لمن هذه المدينة العجيبة؟
تاريخها فيه دم كثير، وغرباء كثر، رؤوس مقطوعة لا تعد، بقدر الرؤوس التي أضاءت العالم.. عاصمة الدنيا التي تصارعت عليها القوى، حتى بعد أن أطفأ المغول نارها المشرقة.. ما أسعد أن تكون مدينة هامشية في جغرافيا العالم وتاريخه! لم يكن هذا حال بغداد في أي عصر من عصورها، إنها ميزتها، ومأساتها.
وحوش وسيوف، دم ورصاص، لا يعرف أحد أنواع الدماء التي ذاقتها درابينها، ولا أنواع الموت التي جرّبها سكانها، ولا أصناف الغرباء الذين جاؤوها محملين بالأحلام، بالأطماع، بالموت لمن يقول: لا.
لكنها مدينة فيها “لا” مضمرة دائماً، تُرى حتى فيما يتصوّر أنه “نعم”.. وقالتها صراحة دون توقف أيضاً، وتحمّلت صراخ الغاضبين عليها، والآتين بفوهات القتل.
إنها تصمت قليلا، تختار أن تنظر إليهم بهدوء، وهم يتصارعون عليها، تهزأ بهم، تتأملهم بأسى، ها أنتم تعيدون ما فعله من سبقكم، تظنون أنها مدينتكم، أنكم مالكوها.. وهي مدينة لا أحد، مدينة أهلها الذين يعرفون كيف يحبونها، كيف يشفقون على الحزانى فيها، ويضحكونهم حين تضيق الدنيا، ويفتحون نوافذها على العالم كله، لتطلّ بوجهها الذي تعرف كيف تمسح عنه الدم، وتحوّل الدمعة إلى ضوء.
(5)
الطريق لا يزال يمتد، ولم أعرف كل المدينة بعد.. لكنني أعرف أن بغداد مرت من قبل بالذي تعيشه اليوم، وحوّلته إلى نافذة تضيء الدنيا، فكيف لمدينة تقدّم لسكانها المسرّات الصغيرة التي لا تنتهي، حتى في حالها الحزين، أن لا تعود لتضيء؟ أن لا تحرّك كفّها اللدن برقّة، وتزيح عن أرضها غرباء لم يتوقفوا عن الأمل فيها! إنها تعرف كيف تفعل ذلك، حتى وإن تأخرت..
إنني أفتح عيني على حزنها، وأغمضهما لأتلقى مسرّاتها الصغيرة، وأنتظر، أنتظر النافذة لتشرع مرة أخرى.
- كاروغو هو شخصية هامشية في كتاب أحلام في حقبة الحرب للروائي الأفريقي نغوغي واثيونغو، كان يتحدى المنع البريطاني وينقل البضائع من منطقة لأخرى في كينيا، رغم معرفته بأنه سيمسك في النهاية.