“حياتنا التي لم يؤرخها أحد
حياتنا ناياتنا المبحوحة في الريح
أو نشيجنا في العلب
حياتنا المستهلكة في الأضابير
والمشرورة فوق حبال غسيل الحروب
ترى أين أوّلي بها الآن
حين تستيقظ فجأة
في آخرة الليل
وتظل تعوي في شوارع العالم” *
الحياة التي لم يؤرخها أحد تعود إليّ كلما قرأت كتاباً في التاريخ، كلما مرّت عليّ عبارات فضفاضة، عابرة، لا تمدّ القلب المتسائل بأي جواب، بل لا تكترث لما قد يفكّر به.
“قتل خلق كثير” “واضطرب الناس” “وارتحلوا إلى بقاع أخرى” .. في كل مرة أغلق فيها كتاباً في تاريخ ما، وأتذكر فقراته المهمة، تعود إلي هذه العبارات السريعة، فتذوي الأحداث الكبيرة في رأسي، يختفي المغول، ويتلاشى أثر الوحوش الذين غيّر مجيئهم سير الحياة، ويخلق صوت لا يفكر سوى بعائلة تعرّضت للقتل، واضطربت أحوالها، واختار ربّها أن ترحل إلى بقعة أخرى من هذا العالم..
فأين ذهبوا؟ أين أخذتهم أقدار الدنيا، وكيف عاشوا كل هذا، ثم انتهوا.. هؤلاء الذين لم يكونوا أرقاماً، بل كانوا حركةً، هكذا يضعهم مؤلفو الكتب القديمة بين السطور، كانوا بشراً يتحركون من هنا إلى هناك، دون أن نسمع صوتهم، أو نعرف ما رأوا، وكيف كانت الرحلة، وهل وصلوا، في آخرها، إلى مكان؟
أخرج من غرق وشيك؛ لأعدّ القتلى
الحياة حركة، وأنت لا تلتفت فيها للذين يسقطون فجأة، تتركهم وراءك وتكمل حركتك.. أراجع بين وقت وآخر أرقاماً وإحصائيات عن الحروب التي عاشها العراق، عن هؤلاء الذين ونحن نتحرك ونتخبط ونعدو، سقطوا.. كل هذه الأرقام، من أصحابها؟
“قدرت اليونيسيف ما بين 1991 و 1998 أن ما يصل إلى 500 ألف عراقي ممن هم دون الخامسة ماتوا نتيجة التأثير المشترك للحرب والعقوبات ونظام العناية الصحية العراقي المفلس. فيما حدد علماء الأوبئة العراقيون حصيلة القتلى بـ1,2 مليون إنسان. ولاحظ إدوار سعيد: على مدى عقد كامل من الزمن، دمرت حملة غير إنسانية من العقوبات – وهي الأكثر اكتمالاً في التاريخ المسجل – العراق كدولة حديثة، وأهلكت شعبه”. *
“واستعملت “قوات التحالف” ولا سيما الولايات المتحدة، مجموعة متنوعة واسعة من الأسلحة في حرب الخليج، بعضها تقليدي وبعضها غير مجرب، ويشير أحد التخمينات إلى أن الدبابات الأمريكية أطلقت ما بين خمسة آلاف وستة آلاف قذيفة يورانيوم ناضب، وأطلقت الطائرات عشرات الآلاف من هذه القذائف، ولقي عراقيون مصرعهم مباشرة بالقذائف أو بالتعرض لها. وسببت هذه الأسلحة موت زهاء خمسين ألف طفل عراقي، في الأشهر الثمانية الأولى من عام 1991 نتيجة الإصابة بأمراض مختلفة منها السرطان وعجز الكلية وأمراض داخلية لم تكن معروفة سابقا”. *
أخرج، في كل مرة، من هذه النصوص والأرقام، مثل من ينقذ من غرق وشيك، كان بينه وبين الموت ثانية ربما، أخرج في كل مرة منها، وفي وجهي بصمات أكفّ الذين سقطوا، الأصابع النحيلة للأطفال الأكثر من 50 ألف الذين ضمرت قلوبهم شيئاً فشيئا وماتوا، أخرج، دائماً منها، أتنفّس بتأن، لقد نجوت، من تلك الحرب، تحرّكت وسقطوا، تحركت واختفوا، هؤلاء العاديون، هؤلاء الذين لا أدري متى سألحق بهم، ولا كيف.
ورغم ما فيها من وحشية، فالأرقام ليست التي تقلقني، فما يسببه هو سؤال: من هم هؤلاء الناس؟ من هم حاملو هذه الأرقام الهائلة؟ أين ذهبت الأسرة كلها، أين تحركت، حين سقط منها فرد، طفل، جندي، أو أصيبت أمٌ بسوء تغذية حاد وأخذت جنينها وغادرت.
وسواء تحوّلوا إلى رقم أو حركة، وسواء صرت مثلهم أو اختفيت دون أن أصير رقماً أو حركة، فأريد هنا، أن أتوقف قليلاً، وأعدّ القتلى، وأروي نتفاً من حكاياتهم التي يعدو إليها النسيان.
نافذة هادئة تُفتح على الحرب
“أتمنى لو أستطيع رؤية المستقبل، ماذا تخبئ لنا الأيام؟” من بين يومياتها الهادئة المستلّة من وحشية أيام حرب الخليج الأولى، كان سؤال نهى الراضي هذا أكثرها قسوة.
في أيام الحرب الطويلة ولياليها، وفي اكتشاف الحصار وما ينطوي عليه، كانت الخزّافة نهى الراضي تكتب يوميات رقيقة، تشبهها تماماً، وتشبه أرستقراطيتها البغدادية، فهي تستطيع أن تكتب عن الحرب، وعن وجبة غداء لذيذة، عن قصف الطائرات، وعن جولة على دراجتها الهوائية، عن اكتشافها طيراً جديداً، وصاروخاً جديداً.
“الغداء يكون عادة وجبة خفيفة بسيطة، العشاء يكون مبكراً – بين السابعة والثامنة – وجبتنا الحقيقية في اليوم، أحياناً يكون مصحوباً بقصف جوي، وأحيانا أخرى لا يكون” “غداً سأبلغ الخمسين من العمر، أشعر باكتئاب شديد، فنحن في حالة مزرية، والوضع كله مأساوي، كثيرون عليهم أن يموتوا، ومن أجل ماذا؟
“نحن الآن بلا ماء منذ أسبوع، يداي وأظفاري تثير القرف، الجميع لهم وجوه مسخمة، لم يعد أحد يكترث للنظر في المرآة” “يوم دافئ منعش، الربيع في كل مكان، يصعب التصديق أن هناك حرباً مستعرة، غارتان علينا هذا الصباح، والطائرات تغطي السماء”. *
لا يمرّ يوم تكتب عنه نهى، إلا وفيه هذه اللمحات الرقيقة والحزينة، ومزج لا يتوقف بين توق إلى حياة نجمية مضيئة، وحياة أخرى معيشة، لونها سخام. فنهى نفسها واحدة في قائمة الأرقام غير المنتهية لضحايا الحرب، فبعد سنوات عليها، أصيبت بسرطان الدم، وبينما كانت تسعى لرفع دعوى قضائية على الولايات المتحدة، متهمة إياها بالتسبب بمرضها من خلال أسلحتها المحرمة التي تعرضت لها، ماتت نهى، هي التي كتبت مرة:
“الطيور كانت الأشد تضرراً من الجميع؛ فأرواحها حساسة لا تستطيع أن تتحمل كل هذا الضجيج والاهتزاز الرهيب، كل طيور الحب التي تعيش في أقفاص ماتت من صدمة الانفجارات، في حين أن الطيور الطليقة تحلق مقلوبة وتعمل شقلبات مجنونة. مئات الطيور إن لم تكن آلافا ماتت في البساتين،
وما نجا منها يطير وحيداً بذهول”.
لقد تحركت نهى، لكن حركتها كانت مثل طير أضرّت به الحرب، وكانت حركتها الأخيرة، مستقبلها الذي تمنّت أن تعرفه. قد تكون نهى أكثر حظاً من غيرها، فهي معروفة في أوساط عديدة، وتستذكر بين وقت وآخر، لكنني أريد أتذكرها هنا، أن أتذكرها أنا.. أليس جميلا في النهاية أن تتذكرك قلوب عديدة وتشكّلك من كلمات؟
فاصل من حرب قديمة
في اضطرابات قديمة، وخوف مرّت عليه قرون، كُتب مرة: “وقتل بالأبلة خلق كثير، وغرق خلق كثير”
“وكان لهذه الأحداث وقع سيء على أهل البصرة، فرعبوا رعبا شديدا، وانتقل كثير من أهلها عنها، وتفرقوا في بلدان شتى”
“ثم تقدموا إلى واسط ودخلوها، فقتل بها خلق كثير، وانتهبت وأحرقت”
“فاضطربت أحوال الناس في بغداد، وتفرقوا في بلدان شتى”
قصص صغيرة؛ الكلمات تهرّب الحيوات من نسيان وشيك
هل يأتي الموت من نقص في الحركة؟ أم إن الحركة تحدث بعد أن يمرّ الموت؟ في القصص التي أعرفها – وهي كثيرة – كان الأمر متداخلاً، فساحة الحرب واسعة، تصلك بالموت حتى حين تغيّر موقعك.
هل يمكن أن نكتب عن القتلى العاديين، دون أن نذكر القتلة؟ أيمكننا أن نروي قصتهم كيلا تنغمس في نسيان وشيك، من غير أن نشير بكلماتنا وأصابعنا نحو القاتل؟ أكانوا سيموتون لولا رصاصه؟ لكنني لن أسمّي القاتل هنا، سأشير إليه وحسب، وعلى الكلمات أن تكفي هذه المرة في أن تنطق اسمه.
إنها قصص حقيقية، لكنها قد تبدو أمثلةً لقصص حقيقية لمن يقرأها، ولا بأس، ألم يعش ملايين قصصاً مشابهة؟
ديالى 2003
زوجان في سيارتهما، خرجا فجراً لكي يبدآ الرحلة مبكراً ويشاهدان النهار أول وصوله، ذاهبان إلى عزاء لأقارب لهما، وهما زوجان مسنان، لا يعرفان ما جرى في المدينة حين كانا نائمين، وكان وجودهما في الطريق مريباً لدبابة مرتعبة؛ ماذا يفعل قاتلان في سيارتهما الآن؟ قد يكون فكر سائق الدبابة بهذا، وقبل أن يفكر بشيء آخر، كان قد دهسهما بدبابته الكبيرة، فصارا عزاءً.
لا أحد يدري إن كانا سيتحولان لأرقام، فمثلهما لا يحتسبون، لا يسمح باحتسابهم، لكنهما ربما، سيأتيان ككلمات في كتاب، لا يمثلان حركة، ولا رقماً، إنهما مجرد قتيلين لا داعي لهما، سقطا، وتوقف المشهد.
2006 بغداد
رجلان عاديان، شقيقان، هل كانا خارجين إلى صلاة الفجر يومها؟ أم كانا يقفان أمام باب بيتهما حين مرّ القاتل بعصابته واختطفهما؟ لا أتذكر تحديداً، أتذكر أنهما غابا، فتحركت عائلة كبيرة كانت لهما، الأم، الزوجتان، الأطفال، البيت، المدينة، كل شيء تحرك، تغير، وانقلب، لم يعد كما كان في السابق، ولن يعود، حتى لو عادا من غيابهما القسريّ.
عائلة سيكتب عنها في كتاب لاحق: “وتعرضت بغداد لحرب طائفية، اختطف وقتل فيها خلق كثير، ونزحوا إلى بقاع شتى” وبعد مرور زمن غير طويل، سننسى الذين نعرفهم، سنصير ربما جملة نحن أيضاً في كتاب، وتصبح هذه العبارة مبهمة، يشير إليها باحثون ويستشهدون بوحشية ما جرى، دون أن يعرفوا أحداً من القتلى.
وأنا مثل محمود درويش؛ أعرف القتلى جميعاً، والذين سيولدون.
أبو غريب 2013
طفل في الثالثة عشرة من العمر، يداهم بيت عائلته القرويّ الهادئ، ويعتقل، تشابه أسماء؟ تشابه مناطق؟ تشابه أفكار؟ من يدري! لكنه يعتقل، وينقل إلى سجن في محافظة بعيدة، ويحاكم لأنه إرهابي، أو لأنه كان يخطط أن يصبح إرهابياً. فتتحرك أمه، من منطقة لأخرى، تبحث عن واسطة ليس للإفراج عنه، بل لزيارته، ولإعطائه مالاً يحمي به نفسه في السجن، وتتسع حركتها، لتبحث عن عمل، فمن أين لها بالمال؟
الأب غائب، ولديها فتيات صغيرات، وابن سجين، وحياة كاملة ستمضيها في حركة شاقة لا خلاص منها، لتنقذ ما يمكن إنقاذه.
ستستريح هذه الأم أخيراً حين تصبح جملة في كتاب، يحكي عن وحشيّة الاعتقال الذي يعرف الجميع أسبابه، لكنهم لا يصرّحون بها، فيسمونها تسميات شتى، سترتاح إذن بعد وقت طويل، حين تصف حياتها كلمات هادئة، ساكنة، نلمسها ونتذكر، ويلمسها بعيدون، ولا يتذكرون شيئاً.
الأم، سترتاح، حين تتحول إلى حركة، وكلمات، إنها لن تتحول حتى إلى رقم.
الرمادي 2014
شاب في الثانية والعشرين، تخرّج لتوّه في الجامعة، يمضي وقته في التخطيط لرحلة الدراسات العليا القادمة، والأذان في الجامع القريب، ويتدرب على قول: لا، لكل ما لا يعجبه، ولا يرضيه، وكانت هذه الـ لا، شيئاً من حركته التي اختارها، وتحمّل خطورتها اختطافاً وتغييباً، من يدري الآن أين هو؟ لقد تحرك حين قال:لا، تحرّك حين اختار ألا يغادر المدينة حين أظلّتها غمامة خطر.
فيما بعد، اختارت عائلته ألا تتحرك أيضاً، فالبقاء انتظاراً لعودته المأمولة، هو طريقتها في الحركة.
مثله، قد لا يذكر في كتاب، قد تستنكر كلمة: لا، التي قالها، قد يُلام، ويؤسف على شبابه الذي ضاع، أهو حيٌّ الآن في مكان ما من هذه الأراضي والصحاري الشاسعة؟ أتاب عن تمرّده في وجه وحشية اكتسحت المدينة؟ لا أحد يدري.
هنا، في هذه الكلمات وحسب، سأتذكره، وأتذكر كل الذين مثله، ممن لا يعرفهم أحد، ولا يفهمون حكاياتهم، ولا أي شيء مما جرى. إنها كلمات ساكنة، لنتذكر من تحرّك وقال لا، أو أوشك أن يقول.
أن تطويَ القتلى، وتتحرّك
من بين كل الأرقام والحروب، من بين كل الضحايا، كم نعرف؟ إنني أفكر في كل مرة أخرج فيها إلى الشارع، أو ألتقي بأصدقاء ومعارف: كم يعرفون من القتلى؟ ولماذا لا يتكلمون عنهم؟
يصمت الحزن العراقي، لا يعرف كيف يكتب عن قتلاه، ولا يدري ماذا يقول حين يسأل عنهم، الحزن العراقي حركة، شعر صامت، وملامح تقسو وتتشقق كتشقق أرض انسحب عنها النهر، فمن بين ملايين القتلى، والضحايا، لا نكاد نلتقي سوى بالصمت الذي يحمله ورثتهم، يطوونهم في قلوبهم، ويتحركون، قد يضمرون شيئاً، وقد لا يفعلون.
إنه تذكّر للحيوات التي لم يؤرخها أحد، للتي نجت من الحرب، وللتي طواها ومضت، للقتلى العاديين والمنسيين، للناجين الصامتين، لنا نحن الذين مثلهم سنستلقي بعد سنوات مشكّلين تراصفاً من كلمات باردة في كتاب، لا ندري إن كان سيتحدث عن الموتى، أم عن الناجين. لكننا سنكون هناك، وحتى يجيء ذلك الوقت، سأقول للحرب كما قالت فيسوافا شيمبورسكا:
سامحيني أيتها الحروب البعيدة
لأنني أحمل الورود إلى البيت
سأحمل الورد إلى البيت، وأضمّ الملامح القديمة إلى القلب، حتى تجيء، وحتى تجيء، سأظل أتذكّر القتلى الذين لم يخرجوا من الحرب.
* قصيدة لعدنان الصائغ – الاقتباسات من كتابي محو العراق والتنكيل بالعراق – نهى الراضي من كتابها يوميات بغدادية