الجزء الثاني من سلسلة رحلتي وحكاياتي في المواصلات العامة ببغداد.
(4)
للسائقين حكاياتهم وشخصياتهم أيضاً، وهم في معظمهم إن لم يكونوا كلهم من مدن ذات طابع قروي أو من قرى تقع على أطراف بغداد، الكيّا التي تقع في طريقي يكون سائقوها من غرب بغداد، أبو غريب، الحصوة، ويمكن رؤية سمات متكررة فيهم: اللهجات القروية الثقيلة والحنون، الدشداشة بلونيها الأبيض أو الرمادي، ملامح مرّت عليها قسوة الشمس وصيّرتها مزيجاً من شقرة الاحتراق والسمرة، وبعض الطيبة الفجّة، أو الكثير منها.
في صباح أحد الأيام، اكتشفت أنني لا أحمل سوى ورقة عشرة آلاف دينار، وليس لدي خردة، في الصباح لا يحمل السائقون أي مال بالمطلق، يكونون قد خرجوا من بيوتهم وتركوا تحت وسادات زوجاتهم ما حققوه من مال في اليوم السابق، وإلى اليوم الجديد يذهبون فارغي الجيوب. أصابني حرج، وتوتر، وكنت وحدي لا يشاركني راكب آخر ليساعدني في حل المعضلة.
في منتصف الطريق صعد معنا راكب، وقبل أن يجلس سألته إن كان يملك خردة ليصرّف لي هذه العشرة آلاف، فابتسم وقال لي: أصغر ورقة أحملها هي مثل التي تحملين. وظل يبحث عن خردة في جيوبه، أحس بنا السائق، وكان ربما في نهاية الخمسينيات، تعرف من صوته وطريقته في قيادة السيارة غضباً وحناناً.. في النهاية، عثر الراكب على ألف دينار ودفع عني وعنه ونزل.
إحراج مختلف! عندما نزل، قال لي السائق: ألا تحملين المال؟ قلت له: لا أحمل سوى عشرة آلاف. فسأل مستنكراً: وتركت الرجل يدفع عنك؟ لماذا لم تقولي؟ وبدا غاضباً فجأة كأنني إحدى بناته: إذا كنت لا تحملين مالاً، فلا توجد مشكلة! لا تدفعي الأجرة، أنا أتحمل الأمر، لكن لماذا تركت الرجل يفعل ذلك نيابة عنك؟ إحراج مضاعف.
رحلة صعبة، لكنني حين أفكر بها أحبها، هناك من قرّر أن يساعدني في موقفي الحرج ويدفع عني الأجرة، ومن غضب لأنه لم يكن ليأخذ الأجرة. حنان كيّاتي كثير الحدوث.
السائق الآخر، كان في نهاية يوم أصبت فيه بحساسية مفاجأة وصرت أسعل دون توقف، نزلت لشراء الماء ولأرفع عن ركاب الكيّا قلق الإصابة بكورونا، بعد أن شعرت بتحسن أخذت معي قنينة الماء وصعدت كيّا أخرى، لاحظ سائقها أنني أسعل بين وقت وآخر ويظهر عليّ المرض. تحرّج من الحديث معي لوجود ركاب آخرين، لكن عندما بقيت وحدي، قال لي: أختي والله شلعتي كلبي وإنت تكحّين، أخذي هذا المي.. وأعطاني قنينة ماء يحتفظ بها لنفسه. شكرته بصوت متعب وطلبت منه إنزالي فقد وصلت، فأردف: والله لو كنت أعرف بيتكم بهذي المنطقة كنت وصلتك لباب البيت. ابتسمت له، وهذا أكثر ما أستطيع تقديمه، ونزلت مليئة بسرور شفيف، أن هناك من لا يزال يرغب بمساعدة الآخرين، كيف كنت سأعرفهم لو لم تجمعني بهم الكيّا؟
لكن، إلى جانب اللطف، تشملنا الكيّا مثلما الحياة ببعض الخوف! حين يتصرف السائق بريبة، ويُطرح التساؤل: هل سأصل إلى البيت؟ أم إنني أتعرض للاختطاف؟ يظل هذا السؤال قائماً حتى يصعد ركاب آخرون معي فأشعر بالطمأنينة قليلاً، لكنه يتجدد ويصير: هل سيخطفنا جميعاً؟ يقطعنا ويبيع أعضاءنا؟ من يدري! لكنني كنت أصل دائماً إلى البيت، كاملة.
يدهشني كيف أن السائق يصير صديقاً للرجل الذي يجلس إلى جانبه في الكيّا، في الصدر.. من أين للرجال هذه القدرة على الحديث وبدء علاقات؟ فجأة ينطلق الحديث، ويشتبك، يتناقشان، حول العمل، أو السياسة، وقد يجدان مصلحة مشتركة بينهما، فيتبادلان أرقام الهواتف، ومحل السكن.. ثم ينزل الرجل الذي في الصدر فجأة وتنقطع الصداقة، بينما ينتظر السائق شخصاً آخر ليحدثه عن معاناته، وحياته الصعبة، وأمه التي يرعاها وحيداً، أو يقدم له دراسة في كيف تؤثر ازدحامات الطريق على حياته كرب أسرة.
لا يتخلى السائقون عن سياراتهم أبداً، ولا أكاد أحصي عدد السيارات التي كانت أبوابها عالقة أو فيها كسر أو مقتلعة بالكامل، قد أفتح باب الكيّا فينهار إلى الأرض، قد أفتحه وتسقط النافذة، كنت في الكيّا مرة حين جاء ولدان وفتح الكبير منهما باب الكيّا فوقع كلّه في يده، فتح الباب وحمله في الوقت نفسه، هل نضحك أم نهلع؟ يظل هذا السؤال مطروحاً طالما كنا داخل هذا العالم.
مرة علق باب الكيّا وكنت داخلها، خرج الركاب الشباب من النافذة، قفزوا، بينما ظللت أنتظر أن يحدث شيء خارق يفتح الباب، وصلت إلى المكان الذي عليّ النزول فيه، تجمع شرطة مرور، وعابرون، وحاولوا مساعدة السائق في فتح الباب، وكنت خلال ذلك أجلس منتظرة مصيري، لا أستطيع القفز من النافذة، والباب متمسّك بلحظته، كنت أحمل وجهي المترقب، بينما في الداخل، كنت أضحك. إنه عالم الكيّا، وهذه الأشياء تحدث.
(5)
في طريق العودة إلى البيت، مع نهاية النهار، يكون الكتاب مرتاحاً داخل الحقيبة، والدور الآن لعينيّ، لتريا، ولصوتي كي يعبّر عن حضوره قليلاً، ولليدين لكي تلوّحا للهواء الذي يصير أطيب مع غروب الشمس. تجلس جواري نساء عائدات من زيارة طبيب، أو رحلة تسوّق، تفتح بعضهن حديثاً معي، لا يكون دوري فيه أكثر من أذن تنصت، هذا ما تريده النسوة، أن يتكلمن، وأن يجدن من تؤيد الكلام وتثني على الأفعال، إنهن بحاجة لذلك، وأنا أجيد فعل هذا حقاً، فرغم أنني أفضل الصمت وأن أغمس نفسي في الطريق وناسه، غير أنني أحب أن تتحدث إليّ النسوة، وأن أكون وعاء حكاياتهن بعد نهار طويل.
حين لا يتحدث أحد معي، أنشغل بالأيدي، وأصنع لكل يدين قصة: هذه الشابة تظهر عليها الرفاهية، لكنها تملك يدين متعبتين، لا بد أنها تعمل كثيراً في البيت.
الرجل ذو الملابس الملطخة بالصبغ الأبيض، يداه ملوثتان ببقع سوداء، إنه صبّاغ حتماً، وأدخل من خلال الخيال إلى البيوت التي صبغها هذا الرجل الهادئ.
المرأة القروية، وجهها مليء بالتجاعيد رغم أن عمرها لا يتجاوز خمساً وثلاثين سنة، إنها الشمس.. يداها تصرخان من قسوة التشققات، إنه العمل، والحياة تحت شمس الحقول.
في النهاية، أنظر إلى يديّ، ما قصتهما؟ لا أملك لهما قصة. أبتسم وحسب، وأنزل من الكيّا.
تصديق العابرين
تعلّمت في عالم الكيّا أن أصدق العابرين، ففي أبهى انكشافهم يكونون هنا، يغرقون في متعة أن لا أحد يعرفهم أو ينتقدهم أو يلاحقهم فيما بعد، تعلّمت تصديقهم، فهم وإن كذبوا، وإن توهموا، فهي ليست سوى أحلامهم وآمالهم وأمنيات تزيح راحة الحضور بين الغرباء عنها حجابها.
في هذا العالم سمعت أشياء كنت أعرف أنها حقيقة، أمهات لمعتقلين، يعملن من أجل الحصول على مبلغ صغير ليزرن أولادهن في السجون البعيدة، أمهات عائدات من الطبيب بورقة تدمع العيون، ها قد انكشف السرّ وضعف الجسد واقتربت النهاية، لن تبكي المرأة المريضة حين تصل إلى البيت، هي تبكي هنا فقط، في عالم الكيا، حيث تجد من يقول لها: الله أرحم، والله كريم، ويواسيها وهو أشد حاجة منها للمواساة.. هنا عالم كامل من المواساة الشفيفة، وكل من فيها حزين يبحث عن مواسٍ.
رأيت رجالاً يحلمون ببلاد أخرى، يقولون إنهم عاشوا فيها وهم لم يعيشوا، لكنها أحلامهم..
وآخرين، نسجوا في خيالهم حلولاً لمآزق البلد، ظنوها المنقذ، وهي أوهام.
فتيات لا يكشفن عن شيء، لكن صمتهن يفعل، تأنقهن، ورغبتهن بالنزول سريعاً قبل لحظة الانكشاف.
مسّاح أحذية صغير، تبادلت ابتسامة سريعة معه بعد أن التقينا في الحافلة نفسها عدة مرات، كان يعرف أنه يحلم، وتخيّلت أنني سأكون ذات يوم حكاية يقصّها على رفاقه.
صدّقت المرضى الكاذبين، الباحثين عن من يقدّم لهم العطف، لا المال، والمرضى الآخرين، الباحثين عن مال، والمرضى الحقيقيين، الناظرين بعيداً بصمت.
صدّقت النسوة كلهن، والرجال العجائز، وسائق الكيّا وهو يخبرنا: هذه آخر نقطة سأصلها، يمكنكم النزول الآن، ودّعوا بعضكم، لا لقاء بعد هذا اللقاء، خذوا الحكايات والهمس والدمع وانزلوا، لكن لا تنسوا، دعوا الحكايات تعيش، وليعش هذا العالم معكم إلى الأبد.
ملاحظات عامة: إلى الفتيات بالتحديد
. حين تكونين في الكيا للمرة الأولى، ولا تعرفين قوانين الطريق جيداً، فلا فكرة لديك عن الأجرة المحددة، أو المكان الأصح للنزول، حاولي ألا تظهري القلق، تصرّفي بهدوء وثبات، وإن كانت هناك امرأة ذات ملامح هادئة، اسأليها.
. الموازنة ضرورية حين تقولين: نازل، لا تقوليها بصوت خفيض لا يُسمع، فتضطرين للنزول بعيداً عن البيت، ولا بصوت مرتفع يُضحك الركاب الآخرين ويفضح كونك مبتدئة. يمكنك أن ترفقي الكلمة بعبارة: بلا زحمة، أخوية، وغيرها من الكلمات في هذا السياق.
. لا تكوني مثلي! حاولي استرداد الباقي من أجرتك واستعادتها من سائق الكيّا، قد تظنين السائق مسكيناً، بملابس رثة، ووجه حزين، غير أن هذا لا يعطيه الحق في سرقة مالك، استعيديه أرجوك، وطالبي بالباقي.
(8)
عالم الكيّا شديد الاتساع، حكاياته أشبه بالسحر، تمتزج فيها الطرافة بالاشمئزاز، الخوف بالطمأنينة، فيها نلتقي بكل الناس وبما تحمله شخصياتهم من تنافر وغرابة ووحشية وحنان. مع كل حكاية أتذكرها عنهم، مع كل دخول إلى هذا العالم أو خروج منه، عالم رفاقي العابرين، عائلتي الواسعة والممتدة في بغداد كلها، حيث نتذكر بعضنا ونحكي للآخرين حكاياتنا معاً، دون أن يشكّل هذا خرقاً لخصوصية، أو جرحاً لأحد، أو كشفاً لسرّ. في كل ذلك، تظل روحي تحمل مشاعر حانية، حزينة وسعيدة، غاضبة أو ساخطة، لكنها مشاعر تزول مع كل صباح أسير فيه وأؤشر بيدي إلى الكيّا، لتأخذني إلى عالمها الجديد تماماً، مرة أخرى.