سيرة مقتضبة، جزء من سلسلة “ثلاث مدن قبل الثلاثين” التي بدأتها قبل سنة حين وصلت عتبة الثلاثين، للحديث عن المدن الثلاث التي مررت بها في ظروف مختلفة.
بداية
المرات التي تخلّيت فيها عن حذري قليلة، أتذكر حتى الأبعد منها حين اشتريت كرة ملوّنة في أواخر سنوات الحصار، يوم كان امتلاك شيء خاص معجزة حقيقية.
أفلتت من يدي وأنا أقف على حافة صخرية أسفلها النهر، تساقط قلبي معها، ولم أعرف كيف أتصرف، لم يكن هناك أحد حولي لأستعين به، والكرة جديدة وثمينة. هنا نزعت الحذر ونزلت بخطى متلكئة وخائفة، نظرة إلى الأسفل حيث استقرت الكرة وأخرى إلى الأعلى لأرى كم ابتعدت، نظرات تتشارك الخوف من الانزلاق والغرق أو الفشل في التسلّق من جديد.
وصلتها أخيراً وأخذتها لا أدري كيف سأصعد الصخر بيد واحدة، ففي النزول كنت أستعين بيدي الاثنتين، أما الآن فالكرة تمتلك إحداهما..
لكنني نجوت والكرة. في ذلك العمر تخلّيت عن الحذر، وبتلك الذكرى أستعين اليوم لأتخلى عنه مرة أخرى وأكتب عن المدينة الصغيرة التي عشت فيها 22 عاماً من حياتي، وشكّلت بحكاياتها حكايتي.
الفوات
لا شيء يغمس الناس في النسيان كالمدن الصغيرة، إنه هبتها وعذابها. وفي مدينة صغيرة على ضفاف الفرات أقصى غرب العراق، كان النسيان يغرقنا بمائه طوال الوقت، وكنت أعيش هناك في حيرة من أمري، بين أن أمنح النسيان تلك السلطة وأتخلى عن الحكاية، وبين أن أقاوم قليلا.. لكن لم يكن النسيان وحده الذي يقضم الذاكرة، فقد ولدت في وقت أشعرني أن كل شيء جيد قد حدث في الماضي وفاتني، وشكّلت الأشياء الجيدة حكايات كالأساطير أسمع عنها ويحزنني فواتها، حتى وصل الأمر أني لم أعد أر فيما أعيشه شيئا يستحق التذكر أو الاهتمام أو حتى الرواية.. أكل ما فات الحاضر، وصارت حكايات الآخرين القوت الوحيد.
ثلاث حكايات شكّلت معرفتي الأولى بالحياة، وكانت الأساس الذي حاصرني بمعنى الفوات، كل واحدة منها تتصل بالأخرى وتكتمل معها، هناك بالطبع حكايات أخرى: منعطفات، قصص مواربة، دروب مفاجأة، ووجوه.. لكن للحكايات الثلاث تظل السطوة المحكمة، وكلّها لها صلة بالزمن، وبأني جئت متأخرة قليلا، وكانت “لو” تكبر أحيانا وتطفئ كل ضوء أراه قدّامي.
كانت الأولى: فوات الماء والمدينة المُغرقة. فقد ولدت بعد غرق المدينة الأم، وتحوّلها لآثار تحت نهر الفرات، انتقل السكان لمدينة جديدة بعيدة عن النهر، وكان هذا فوات قاسٍ عشته في حياتي، ألا أكون رأيت المدينة القديمة، وأنني لم أعش قريبة من النهر، وأنني فاتتني كل الحكايات الساحرة التي حدثت هناك.
أما الثانية: فهي فوات السعادة ـ إن كان بالإمكان تسميتها سعادة ـ أي الزمن الذي عاشه العراقيون قبل الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة عام 1990، فقد ولدت في بدايته، ورافقني خلال طفولتي شحّ في كل شيء، فقر وجوع وتحسّر على الفتات، هذا بعض ما أتذكره من طفولتي المبكرة، وظللت أسيرة لهذا الفوات ولحكايات الوفرة السابقة لمجيئي للحياة.
الثالثة كانت: فوات المتكأ، فقد توفي والدي وأنا في سن الرابعة، لا أقول إنني لا أتذكر شيئاً، بلى في الذاكرة تفاصيل ولحظات غائمة من الحياة معه، لكنه فوات أيضاً، ظللت لوقت طويل أشعر بيده الثقيلة تضغط قلبي، أما الحكايات، فليست كثيرة، وهذا ما يجعل الفوات يصير فواتين، فلا حضور، ولا حكاية.
أن تفتح النافذة، مرة
حين أردت الكتابة عن هذا الطريق في حياتي، طريقي الأول، أخذ مني الأمر أياما وليالي طويلة.. لكنني ما إن تحررت من ثقل حكاية الفوات، وحسمت أمري في فتح نافذة أخرى، نافذة أرى منها كلّ ما لم يفت، كل ما حملته الريح من النافذة إلى الذاكرة، وكل ما كان كالضوء، وإن محرقاً أحيانا.. منذ تلك اللحظة، وأنا أعرف، والنافذة مشرعة، والحكاية حكايتي التي لم يفتني منها شيء.
لم أكن ولا للحظة أتخيّل أنني سأرى ما عشته جديراً بأن يروى، لا بل جديراً بأن يعاش من الأصل، لكن لحظة الخروج من المدينة الصغيرة عام 2014 بفعل حرب جانبية ضمن الحرب الكبرى المغرَقين فيها، كانت هي لحظة الرؤية الصافية، ما إن تخرج من مكان حتى يقلّ التضجّر، تشحب العواطف الغاضبة، ينسحب النقم ويتضح شيئاً فشيئاً أن ما شعرت به يمكن أن يكون مبالغاً فيه، يمكن أن تراه الآن بعين أخرى: عين الراحلين.
وهي عين جميلة، حتى وإن كانت تبكي، أو تلعن، أو تكابر.
لا فوات في الحكايات التي عشتها، فهي حكاياتي أنا، مررت بها واحدة تلو الأخرى بقدمين مبللتين بالماء أحياناً أو مجرّحتين، لكن في كلّها كانت العينان يقظتين.. ثلاث حكايات أيضا، أسست ذاكرتي وخلقت بجمالها وقسوتها الصندوق الساحر فيها، الآن حين أتذكر، حين أروي للآخرين، وحين أحلم، أكون دائماً مدينة لهذه الحكايات المؤسسة، للصندوق الذي حوّله وعي الطفولة لشيء أكثر من ساحر.. فإن كان قد فاتني شيء لأنني جئت في شفافة الوقت، فقد عشت في زمن مناسب لحكايات أخرى، حكاياتي.
الحكاية الأولى: البستان

ربع ساعة بالسيارة تفصلنا عن البستان والنهر والوديان المليئة بالمفاجآت، كنت أقطعها وعائلتي كلّ يوم تقريباً، وإن كنت أكسل عن الذهاب أحياناً، فمرة في الأسبوع..
في ذلك المكان الذي سيكون الذكرى الرابحة من بين كلّ الذكريات، تعرّفت على طعم التراب المحّبب الكامن في ثمار الرقي والخيار، تعرّفت يدي النحيلتين على خدوش شجرة الرمان وعلى رائحة ذروق الطيور التي تملأ أشجار الليمون والبرتقال، على الزيتون ونحن نذهب لقطفه رغم الطائرات الأمريكية المحلقة فوقنا والطريق الخائف والمخيف الذي نمرّ به في الجيئة والرواح.
على النهر، على الفرات الأزرق الذي لمسته قدميّ لأول مرة هناك، وسيظل النهر ملتصقاً بالبستان إلى الأبد، لحظات الدخول الأول في الماء البارد، العبث والضحك ثم العودة للبيت مختارةً الجلوس بجوار نافذة السيارة لمتابعة النجوم، ففي ذلك الوقت كانت كثيرة وتضيء بجرأة.
تعرّفت هناك إلى الخوف أيضاً، خوف السقوط من الصخور والغرق في النهر، خوف الليل والمرور من بين الأشجار خلاله، الخوف من أصوات الحيوانات التي لم أكن أعرفها، والخوف من البيت الحجريّ وهو يتحوّل بعد المغرب لمكان مظلم وموحش.
المباهج، والمخاوف، وكلّ ما بينهما من مشاعر، كانت هناك. وهذه حكايتي الأولى، حبيبةٌ، لكن فيها جانباً آخر.. تمثله الحكاية الثانية.
الحكاية الثانية: النقص
الحصار، كيف يمكنني أن أتهرّب من تأثيره على حياتي وقد كنت وإياه رفيقين؟
جئنا إلى هذه الحياة في أزمان متقاربة، أشهر تفصل بيننا لا أكثر، هبط على هذه الأرض وسكانها بثقله، وعلى الأرض ذاتها ولدت، بصراخ جنينيّ لا يُعرف إن كان حالماً أم متضرّعا.
وبقينا معاً سنوات الطفولة، عشت معه النقص في الطعام، والملابس، وحاجات الطفولة.. لا أتذكر أنني حصلت على دمىً أو حليٍ، لم أحصل على حقيبة مدرسية خاصة بي إلا بعد سنوات عدة من الدراسة، قبلها كنت أستخدم حقائب أشقائي الأكبر مني، حقائب مهترئة، قديمة ومرهقة، أخجل من بقية الفتيات وأنا أحملها، وأقرف منها حين نكون وحدنا.
كنت أقف مرة أمام باب بيتنا في الشارع، حين جاء ابن جارنا الذي بعمري راكضاً نحو أمه قائلا لها: يقولون سينتهي الحصار، وسنستطيع شراء علبة حلويات بخمسين ديناراً فقط.. حتى وأنا طفلة شعرت بأن هذا القول ضرب من الخيال، حلم لا يتحقق من أحلام هذه الحياة.. من كان يستطيع أن يشتري حلوى كي يبتاع علبة؟
غير أنني لم أعرف سوى الحصار، ليس هناك في ذاكرتي مرحلة أقارن بينها وبينه كما يفعل الأكبر مني سناً، اللحظةُ التي اكتشفت فيها فعل الحصار بنا/بي كانت متأخرة للغاية، قبل سنتين فقط، كنت أكتب مادة صحفية ساقتني لقراءة كتب ومواد بحثية عن الحصار، عرّضتني لصدمة لا أظنني سأخرج منها.. صدمة أنني عشت كل هذا، وأن ما عشته غير طبيعي، وأنني لم أكن أدري بذلك..
هذه حكايتي الثانية في تلك المدينة، في الطريق الأول من حياتي، الحصار الذي أحاطت قسوته بهشاشة الطفولة، وحوّلت كل المتاح إلى مستحيل، لكنها حكايتي، وقد أشرعت لها النوافذ لتكون أكثر من مجرد ألم أو تحسّر، إنها حكاية القوة، والصبر، والبقاء.
الحكاية الثالثة: ترقّب الرصاص الأول
ترقّبت الحرب كي أتخلّص من المدرسة، وعشتها كالحلم أتتبع صوت صفارات الإنذار والطائرات التي تقصف والعجلات التي تهشّم الإسفلت وتوقظ الخوف..
حين أفكر بالحرب أذهب بالذاكرة لأكثر من واحدة، الحرب الأولى عام 2003، ثم ما تبعها من حروب متعددة تركت كل واحدة منها أثرها على نفسي وحياتي، ومنها تعلّمت أن صوت الرصاص قد يكون جميلاً في بعض الحالات، أن الخوف لا ينتهي ولا نتعلّمه بالتكرار، صيّرتني الحرب أكثر جرأة وشجاعة، تعلّمت منها ألا أجعل الخوف يصيبني بالجبن، فبينهما فرق شاسع، منها تعلّمت بالقسوة والألم أن علينا أن نقدم الكثير، دون أن نحصد شيئا حقيقيا.. أن نرى كل ما حولنا ينهار، ثم نمضي لنشرع أبواباً أخرى، ونقول ما أطيب هواء الصباح.
آخر حرب مرّت كانت عام 2014، الحرب الوحيدة التي استطاعت اقتلاع عائلتي من البيت، أواخر 2014 خرجنا من بيتنا دون أن نستوعب ذلك، فمن كان يصدق أو يتخيل؟ نحن لا نخرج من بيتنا، وكان خروج الآخرين محط سخرية أحياناً.. لكنها الحرب، أليس كذلك؟ وتسلّط الخيانة على رقبة المدينة الصغيرة.
خرجت من المدينة الصغيرة وتركت ضفاف الفرات لكن قدميّ لم تجفّا، بقيتا مبللتين بماء من أنهار وحكايات وتجارب أخرى، لم أجرؤ على الحلم بكثير منها فيما سبق.. خرجت من المدينة الصغيرة وحملت معي حين غادرت حكاياتي: البستان، والحصار، والحرب، وبينها كل الحكايات الصغيرة والمتناثرة هنا وهناك.. وسرت إلى حكايات أخرى، بخطىً متلكئة، لكن بتوق.