سيرة مقتضبة، جزء من سلسلة “ثلاث مدن قبل الثلاثين” التي بدأتها قبل سنة حين وصلت عتبة الثلاثين، للحديث عن المدن الثلاث التي مررت بها في ظروف مختلفة.
بداية
تل، جبل.. جبل، تل.. كنت أخرج رأسي من نافذة السيارة التويوتا البيضاء المخططة بالأحمر ونحن نتوجه إلى البستان، أنظر إلى الطريق وكلّه أرض منبسطة تتخللها تلال، تلال ينخفض بعضها ويرتفع الآخر ويلوح من ورائها نهر أزرق.. بعين الطفولة التي لم تر بعد الكثير، كانت التجارب الصغيرة تمثّل كل العالم، فكنت أنظر للتلال وأسمّيها جبالا.. وأعدّها طوال الطريق: تل، جبل.. جبل، تل. حتى نصل.
هيّا نترك بغداد
كنت قد تخرّجت في الجامعة للتوّ حين صارت حرب 2014، لم أكن متفائلة بالتخرج، ولا سعيدة بما ينتظرني. المدينة الصغيرة تمسك رؤوس أبنائها وتهوي بها في نهر اليأس والنسيان والطرق المغلقة.. وكانت في تلك اللحظة تمسك لا برأسي وحسب بل بقلبي. تدور حول حياتي أشباح الخوف والقلق مما سيأتي ومما لن يأتي.. ما الذي ينتظر فتاة حديثة التخرّج في مدينة صغيرة ومنسيّة؟ امتلأتُ خلال سنوات الدراسة بفرح الكتابة، وغمرتني آراء أساتذتي فيما أكتب، وتخيّلت أن الطريق سعيد ينتظرني.. غير أن الضيق لا السعة، والكآبة لا الفرح، كانا ينتظران.
ما الذي قد أتوقعه؟ الحرب؟ كانت مألوفة.. غير أن شيئاً واحداً فيها قد لا يكون كذلك: ما تحمله لنا. وقد حملت ليَ الرحيل عن المدينة الصغيرة. ورغم أنني لم أكن سعيدة ساعة الخروج، غير أن الرحيل حقيبة أولها حزن وقلق، وآخرها سكينة.. أو هكذا عليها أن تكون.
حين تركت الأسرةُ المدينةَ الأم أواخر 2014 بفعل الحرب، تشظّى البيت الكبير إلى بيوت صغيرة، كنت يومها في بغداد مع أمي وبعض أفراد العائلة. لم تكن بغداد ودودة، تلقفّتنا وحشتها وأمسك بنا رصاصها والتهديد بالموت، مرّت ستة أشهر عشناها فيها محاولين العثور على بيت نؤجرّه بسعر مناسب ولم نجد، كان أخي وأسرته قد ثبّتوا بيتهم الصغير في الشمال، وأغرونا بترك بغداد والسفر إلى هناك، فإن كنا قد اتخذنا الخطوة الأصعب وغادرنا البيت الأول، فما يبقينا في بغداد وهي تدفعنا عنها؟
نوافذ الشمال مضفورة بالغيم
هنا، في هذه اللحظة من الرحلة يهبّ هواء بارد، وعلى الكلمات أن تتحول إلى ريح وأراض خضراء ومساحات من الأشجار والجداول وصوت عذوبة يغمس كل شيء.. شيء ما ساحر هنا يتجاوز سحر الأماكن الجديدة وعبثها بنا، إنه سحر أصيل أدركتُه كلما مرّت الأيام. هنا تتحوّل الحياة إلى مطر خفيف لا يتوقف عن غسل قلوبنا الحزينة، هنا كان الشمال، وكانت المدينة التي تشبه حلماً نستيقظ منه نتنهّد ونحن نستعيد تفاصيله الجميلة ونقول: ليته استمرّ، وليت النوم لم يفارقنا.
وصلتُ المدينة المسوّرة بالجبال في كردستان ليلاً، لم أكن أقلّ كآبة ولا يأساً حينها، غير أنني تخيّلت أن وحشة بغداد قد يدفعها لطف الطبيعة واخضرار الحياة في كردستان الشمال، وخيالي هذه المرة لم يكن وهماً..
أتذكر المرة البكر التي وقفت فيها في حديقة البيت الأول هناك، سألني أخي أين أخمّن حدّ الجبل، أمعنت النظر وأشرت بيدي، قال لي: سترين صباحاً.. ورأيت، كان الجبل أكثر ارتفاعاً مما ظننت، أكثر إدهاشاً وجمالاً.. هذه المرة الأولى التي أرى فيها جبلاً حقيقياً، تضاءلت التلال والجبال التي كنت أعدّها في طفولتي، انزوت خجلة لما رأت الجبل الأول، والجبل الأول هذا لم يكن الأعلى..
كان الغيم قريباً هنا، حنوناً يلمس كلما فتحت النافذة عيني وروحي، ينزل أحياناً إلينا، يخفف عنا البرد وعن الجبل وحشة الريح. كانت نوافذ الشمال مضفورة بالغيم طوال السنة، حتى في الصيف يزورنا طيفها، ونزورها حين يؤذينا الحر ونصعد إلى الجبل.. هناك نستمتع بلونها مرة أخرى، وبالهواء، هناك حيث خفّف هذا الجمال والهدوء من كآبتي وجعلني أرى.
زوزك.. حنان يمشّط الذاكرة الحزينة

يعيش في المدينة الجبلية المسماة سوران أكراد عراقيون وأكراد إيرانيون وبعض الأقليات الأخرى التي لم تسعفني اللغة للتعرف إليها، اللغة كردية إلا ما بدأوا بتعلّمه حين وصلنا نحن العرب إلى المدينة نازحين من حرب سبق وعاشها الأكراد. لقد مرّت على الأكراد عقود من محاولات تشويه الصورة، غير أن الحياة معهم في تلك المدينة ذات الطابع الريفي غيّرت كل ذلك.
المدينة محاطة بالجبال من كل جهة، بعضها مشهور يأتيه السياح من كل مكان، وهناك شلالات وآثار لا تخلو من الزوار على مدار العام، مررتُ بكل هذه الأماكن في الأشهر الأولى من الاستقرار في المدينة، لكنّ لحظة التحوّل من نظرة السائح إلى نظرة ابن المدينة كانت تقترب، عرفت حينها أن عليّ ترك الأماكن السياحية للسياح، وأن أتعرف على المدينة وطبيعتها عن قرب وأحتك بها، أمشي تحت مطرها، تلمس أقدامي ثلجها، تلفحني الشمس الحارة التي تفاجأني في كل مرة بحرارتها، أتصدر شمس حارة من مدينة لطيفة كهذه؟
بدأت أول عمل لي في تلك المدينة، عمل عبر الإنترنت كنت سعيدة به وشعرت لأول مرة بجدوى أن تكون لديّ شهادة جامعية وشيء من اهتمام بالتخصص، صار لدي دخل جيد كل شهر، وصرت أستطيع الإسهام في دفع بعض تكاليف الحياة مع عائلتي التي لم تتعود العيش في بيوت مؤجرة، ورغم أن إيجارات البيوت هناك لم تكن مرتفعة، لكن للتجارب الأولى صدمتها دائماً. كنت أعمل منذ التاسعة صباحاً وحتى العصر، ثم أخرج إلى الحديقة. وأكاد أبالغ حين أقول حديقة لأن كل البيوت التي مررت بها في تلك المدينة كانت بلا حدائق، وقد كوّنت رأياً حول سبب ذلك مع مرور الوقت: إن كانت المدينة تضمّ كل هذا الجمال، وإن كنت بمجرد تحريك الستارة أرى الجبال وألوانها والطبيعة البهية، فما الحاجة لحديقة؟
قدّمت لي المدينة الأمل لأول مرة منذ سنوات: عملٌ جميل أحببته، وجبل صديق انغرس حضوره في قلبي، زوزك الذي كان أول جبل رأيته، وأكثر جبل تصافحه عيني خلال السنوات التي عشتها في المدينة، وأجمل الجبال وأشدّها حناناً.
لا يعد زوزك جبلاً كبيراً أو مرتفعاً، جبل محليّ لا يعرفه أو يحبه سوى سكان المدينة نفسها، ممن عاشوا معه أيامهم، شاركهم الذهاب إلى العمل والعودة منه، يحنّ عليهم بالظلال وبالهواء وبالسفح الذي تتنشر عليه بيوتهم.. جبل محليّ، يحبه ويألفه سكان المدينة فقط، وقد صرتُ منهم.
خطوة أولى على الثلج
مع شفافة كل نهار أصعد إلى سطح البيت حيث تصير كلّ الجبال المحيطة بالمدينة حولي، أتأملها واحداً واحداً ثم أعود لألتقط الصور لزوزك، يسحرني سفحه والبيوت التي أترقب لحظة تضاء شرفاتها عند الغروب، بيت تلو الآخر يضيء، حتى يصير سفح زوزك أبيض برجفة ضئيلة، لكن جسده القويّ والقاسي يظل محتفظاً بحقه في الإظلام ونشر الليل في المدينة.
أتذكر مرة أنني كنت أمشي عائدة من السوق حين مرّت حافلة تقلّ سياحاً من مدن عراقية بعيدة، شعرت بلذة جميلة وأنا يُنظر إليّ من نوافذ الحافلة كفتاة من سكان المدينة، نظرت إليهم بالطريقة ذاتها، كفتاة تسير في شوارع مدينتها الأم ويضجرها السياح الذين لا يتوقفون عن القدوم. كانت لحظة ثمينة بقيت أحتفظ بها في قلبي، وهي التي ستظل تعود إليّ وتدفعني للرجوع إلى تلك المدينة: ألم تقولي إنها مدينتك، من يملك أماً كهذه واجب عليه التكوّر في أحضانها في النهاية.
خضت وعرفت في هذه المدينة أشياء كثيرة: رأيت الثلج لأول مرة ومشيت عليه بخطوات قلقة، عرفت كم هو مؤذٍ النظر إليه بشكل مستمر، وكم هو مدهش صوته حين ندوسه. فيها أدركت قسوة الجبال وصعوبتها، وكيف أنها رغم ذلك تستطيع أن تكون أخاذة الجمال وساحرة. تسلّقت تلالاً متعددة وأرهقتني، قطفت ثمار شجر الصنوبر والجوز وانغمست في أنهارها الصغيرة العذبة، الهادئة والغاضبة، رأيت قبور سكانها، قبور لا يبدو أن أصحابها موتى، كانوا يستلقون على العشب وتحيط بهم الأشجار، كأنها مجرّد استراحة صغيرة من حياة متعبة.
أحببت أسواقها المكتظة بناس شديدي التنوع واللطف، الأسماء الكردية للمحلات والدكاكين والمكتبات، كيف صحح لي رجل كردي كلمة عربية أخطأت بها، وكيف صارت وجوههم مألوفة مع مرور الوقت.. كان في المدينة سحر المدن التي ندخلها أول مرة، سحرٌ يعرفه السياح وهم يكتشفون أماكن جديدة وغامضة، لكن للمدينة سحر مضاف: أنه لا يزول ولا يتغير.. سحر باق، ظل معي سنتين ونصف أو ثلاث سنوات.. لم تبدده المعرفة ولم يغيّره القرب وزاده الانغماس فيها قوة.
بغداد تجيء مرة أخرى
أعطتني مدينة زوزك الأمل، رأيته في مطرها الخفيف غير المنقطع، في حرّ صيفها المباغت وبردها اللاسع.. الأمل الذي كم كنت أراه بعيداً قبل سنة وسنتين، صار الآن ملتصقاً بروحي.. من حنان زوزك وسفحه أقدمت على قرار الرحيل، فالأمل يخلق فينا الرغبة بالمضيّ قدماً، حتى وإن كان ما سيأتي وما سنتركه مؤلماً.
تركت المدينة أواخر 2017 للدراسة في بغداد، كانت المدينة حانية وحبيبة، غير أن الخروج منها كان القدر الذي منحني إياه حنانها، سمحت لي بالمغادرة مع وعد بالرجوع.. ودّعتها في يوم من أيام الربيع بالدمع والأغنيات، ودعتها وأنا أضم إلى روحي كل ما عشته فيها، وأن يظل معي إلى الأبد.. وأن أعود بالطبع.. لكن الآن إلى بغداد، ولقاء قريب كنت أغنيه ليسمعه زوزك.