ثلاث ورقات من زهرة برية أضعها في الصفحة التي ودّعت فيها إملي ديكنسون الحياة، ثلاث ورقات، وغصن ضئيل من نبتة زعتر لم تتألق في الحديقة – لأن مكانها الوديان – وورقة أخيرة من نبتة لا أعرفها، بريّة ولها تمردها وسطوتها على جاراتها، وخمس عصافير زرقاء في قفص مؤقت، أرعاها من الليل والوحشة.
بي رعبٌ
وبدل أن أقول كما قالت ديكنسون مرة: “بي رعبٌ – منذ أيلول – لا أستطيع البوح به لأحد، ولذا أغني، مثلما يفعل الصبي عند المقبرة – لأنني خائفة”. أفكّر بأن أمحو – بجرأة – أيلول، وأضع حياتي مكانه، ثم أغير رأيي إذ أكتشف أن شهر ولادتي أيلول، وبذا تكون العبارة في مكانها: بي رعب منذ أيلول ذاك التي ولدت به، ولذا أغني.
مثل سنونو يعتري تاريخه خوف، أعبر الحياة.
مثل سنونو قلق أجتاز الحياة وكل شيء فيها، من مكاني أتابع الناس وهم يعبرون الشارع من جهة لأخرى، لا أحد – تقريباً – يجتازه كما أفعل. منذ يومين شاهدت رجلاً أجنبياً قطع الشارع بخفة ومرح كأنه في نزهة، كأن الناس والسيارات من حوله عائلته وأصدقاؤه، وقد كنت أتشبث بما قاله مرة تشارلز سيميك وهو غريب ووحيد في باريس، يشاهد سكانها في المترو يتصرفون بثقة من يملك كل شيء، في حين كان منزوياً؛ خائفاً من أن تُكشف غربته، يقول: إنهم ممتلئون بالثقة في أنفسهم، هذه هي مدينتهم. لكنها ليست مدينة ذلك الرجل الأجنبي الذي لا أعرف من أي بلد آسيوي جاء، إلى مدينة غريبة تماماً عنه كبغداد، فلم كان يقطع الشارع ممتلئا بالثقة كأنها مدينته؟
لا أقول إنها ليست مدينتي. لكن هناك مسافة دائماً بيننا – تشبه المسافة بين إملي والعالم – تحوّلني إلى سنونو لا يتوقف عن التحليق والرفرفة، لا يكف عن الاقتراب شديداً من الأرض ثم يرتفع سريعاً مرتبكاً قبل أن يلمس طرف جناحيه ترابها. إنني أطفو أو أرفرف متوجسة، في مسافة بين الأرض والسماء هنا، لا الأرض هذه لي، ولا أقترب من السماء، يتحرّك الناس في كل مكان كأنهم في بيوتهم، بينما يظل شيء ما مفقوداً في حركتي، كان يملكه ذلك الرجل الغريب، وأقول ربما لأنه اختار أن يكون غريباً، وفي أرض لم تمتد إليه أيديها المهشِّمة – بعد – تقول لي مريم: لا يمكنك أن تقلبي الصفحة وتمضي، فالريح ستعيدها إليك دائماً، الريح التي تربك حركة السنونو قليلاً، تعيدك إلى صفحة قُلبت سريعاً، وتمرّغ بتفاصيلها المنسية عنوة، الذاكرة. إذن، لديّ لقاء طويل مع صفحةٍ طويتها؛ لنوضّح المسافات والخوف الذي مدّها، وصيفها الذي يُقصي السنونو
عزاء صغير ليطير السنونو
عزاء صغير لإملي ديكنسون، لأصابعها الضئيلة وهي تكتب، لرفاقها من التلال والزهور البريّة والحب المخذول، وللشجاعة إذ تكسر الخوف من الوحدة. ولي، ولكم ربما. عزاء أن تخيفك الحياة، وتكسّر بكفيها اللذين يقسيان فجأة جناحيك، لكنك تظل شجاعاً، والشجاعة بأن تطفو، وأن تحاول استعادة لا جناح السنونو وحسب، بل قدمين واثقتين تعرفان أن هذه الأرض، أرضك. فهل ثمة إذن – أيتها الأرض – كما تقول إملي “من متسع لي هناك؟ أم عليّ أن أهيم على وجهي شريدة وحيدة؟”