أجلس في مقهى بالكرادة، أمامي يتحرك الناس، مشاة وسيارات وحافلات، صخبها المعتاد الذي أحبه والذي قد مرّ وقت طويل دون أن أراه. الهواء ملوث، لكن منارة جامع جميلة عن يميني تشغلني عنه، الكبريت يحيط بنا، لكن عيني الحسين تنظران إليّ، فأنشغل بها، أطفال كثر يمدون أيديهم، يريدون قليلا من المال منا نحن الذين اخترنا الجلوس على طاولات في الشارع، تشغلني عنهم ذكرى مريم، بعد أن ضجرت مرة من إلحاح طفلة توسلت إلينا بأسماء كل الأئمة، فقالت لها مريم: ترا إحنة سنّة! فارتبكت الطفلة ولم تعرف كيف تتوسل إلى سنّة طلباً للمال، وتركتنا خائبة.
في مقهى في رصافة بغداد أجلس، سائق الأجرة الذي أوصلني كان من الرصافة، لا يعرف الكرخ إلا قليلاً، قال لي: ما اسم منطقتكم؟ أخبرته باسمها وبررت له بعثرتها والإسفلت المحفور فيها: المنطقة جميلة، لكنهم يعملون على إصلاحها منذ مدة، ولذلك تراها متربة.
وفوجئت بنفسي، لماذا بررت له حال المنطقة؟ هل أشعر بانتماء إليها كي أقلق على سمعتها ونظرة إنسان من الرصافة إليها؟ لست متأكدة، لكنني اعتدت ألا أبرر لشيء أو مكان أو إنسان، إلا إن كنت أحبه، وأريد للآخرين أن يروه كما أراه، جميلاً حتى وإن أخطأ. فهل أحب المنطقة الكرخية التي أسكن فيها حقاً؟ هل بعد كل هذا الوقت من الزمن، استطعت أن أشعر بالانتماء إلى مكان ما؟
رغم أنني لا أشعر بذلك، لكنني سأدعيه، فهذا يوم جميل، أقطع الكرخ فيه إلى الرصافة، لأشرب قهوة، وأرى الناس، وأفكر بك!
في مقهى في الكرادة أجلس، على الرصيف، خريف ممهد للشتاء، لكن الهواء ملوث، يخيل إليّ أحياناً أن بغداد تجري فيها الكثير من الأمور، في حركة دائمة لا تتوقف، لكن كل شيء يجري، يجري بشكل خاطئ، الأشجار الجميلة تقطع، وتأتي بعدها حملات زراعة أشجار، لكنها الأشجار الخطأ. المناطق تهدم وتحدّث، لكنه التحديث الخطأ، يقتل المكان والمدينة والناس، نحن نتحرك، من مكان لآخر، لكن كل حركتنا خاطئة، لا نعرف إن كان ما نفعله صحيحاً أم لا، إن كانت الأحلام هنا مناسبة أم لا، إن كنا أحياء فعلاً، أم يخيّل إلينا ذلك. المدينة كلها خطأ يتمدد، ونحن أخطاء صغيرة نتحرك فيها قلقين من هنا إلى هناك. النهر هو الوحيد الذي لا يجري فيه شيء، صامت منذ أن احتلّ المغول بغداد، أشبه بنهر ميت، صورة ساكنة على خلفية متحركة، فهل هو مثلنا إذن؟ لكنه خطأ قديم؟
في مقهى في رصافة بغداد أجلس، أتأمل المشاة، الآباء الذين يمسكون أيدي أطفالهم العائدين من المدرسة، الأمهات بالعباءات السوداء، الرجال الذين لا يزالون يرتدون السيدارة، لكن كلّ ما يشغلني هو أنت، في مقهى ببغداد أجلس، لأفكر بك.