سيرة مقتضبة، جزء من سلسلة “ثلاث مدن قبل الثلاثين” التي بدأتها قبل سنة حين وصلت عتبة الثلاثين، للحديث عن المدن الثلاث التي مررت بها في ظروف مختلفة.
بداية
أكملنا نزول الأدراج، ووصلنا عند نهايتها إلى تفرّعات متعددة للطرق التي ستقودنا إلى البيت، رجتني صديقتي أن أتمشى معها قليلا في طريقها الخاص إلى البيت، وكان يتجه يسارا، طريق مرصوف وضيّق، محاط بأشجار الدفلى المزهرة، أن أتمشى دقيقة واحدة فقط لنكمل حديثنا، سرت خطوتين صغيرتين وتراجعت، خفت السير في طريق لا يؤدي إلى بيتي أنا، أصابني هلع طفوليّ لا أعرف الآن حين أفكر به، من أين جاء؟ لماذا كنت أخاف المشي في أي طريق لا يؤدي إلى بيتي؟ حتى وإن كنت أعرف طريق العودة.
عدت راكضة إلى طريقي الخاص، سقطت حقيبتي المدرسية الثقيلة على الأرض واتسخت بينما كنت أهرب كأن وحشا سيفترسني، حملتها لاهثة وابتعدت متجهة يمينا، صار الطريق الصغير والجميل ورائي، غابت صديقتي التي قطعتُ بخوفي حديثها، وسرت إلى البيت ممتلئة بطمأنينة المألوف.
اللقاء الأول
عدت إلى بغداد هذه المرة لا كنازحة بل كطالبة ثم مقيمة، وهي المرة الأولى التي تتاح لي الفرصة فيها لأقترب من المدينة دون أن يحذرني أحد منها أو تفزعني هي نفسها مما يحدث فيها.. وحتى اليوم، أكون قد أمضيت في بغداد أكثر من خمس سنوات، وصلتها للدراسة بعد ثلاث سنوات أمضيتها في الشمال، خلال هذا الوقت لم أقل مرة واحدة بأنني أحبها، أو أنتمي إليها. أحيانا حين أتأمل مشاعري تجاهها، أرى أنني أهرب من بغداد، أخشى أن أقول لنفسي أو لأي أحد أنني أحبها، أو أطمأن لمكانٍ ما فيها، كأنني لو فعلت ذلك ستُسلب المدينة مني، سأفقدها. وأحياناً يصيبني قلق من نوع آخر، قلق ألا تفهم مشاعري، فهل يمكن لإنسان يرى بغداد الحقيقية ثم يحبها ويألف وحشيّتها؟
والآن، في اللحظة التي أكتب فيها عن بغداد امتلئ بالمشاعر الحانية، غير أنني لن أقولها حتى كتابةً. هل أحبها؟ ربما، لا توجد إجابة واضحة، فمن يدري ما الذي سيحدث غدا؟ غداً سأقول.. والغد يجيء
أقول أحياناً، حين يسألني الناس عن بغداد، بأن في رأس كل إنسان مرّ بالمدينة فكرةٌ عن بغداد متخيّلة، جمّعها من كلمات الآخرين وذاكرتهم، من مشاعرهم وحبّهم الغريب، من فكرة قديمة عن بغداد تمتلئ بصوت النهر والنوارس والنساء الضاحكات. بهذا الجواب أهرب من إجابة أكثر صدقا عن بغداد نعيش فيها كل يوم، نخافها ونرتبك حين نسير في شوارعها، نحبّها ونقلق من حبّها كيف سيردّ علينا، لكنني عرفت بغداد، ورغم أنها لا تشبه أي بغداد قديمة أو متخيّلة، غير أنني أحببتها، حتى وإن كان جواب الحب تخلٍّ أو رصاصة.
وصلتُ بغداد نزوحا ذات يوم، ولم أكن قبل ذلك أتخيّل أن أصل إليها بهذه الطريقة أو أعيش فيها أكثر من أسبوع. فلطالما تخيّلت حياتي تبدأ وتنتهي في المدينة الصغيرة التي قدمت منها.. وحين جئتها كانت مدينة متوحشة، كبيرة لا تشبه المدن الصغيرة التي مررت بها من قبل، غريبة والريح فيها لمسة موت، تسبقها سمعة من الخوف والرصاص والأيدي التي تخطف أو تعذّب. لم أكن أعرف كيف أسير في المدينة ولا أين أذهب، كانت خطاي مرتبطة دائما بشخص آخر يدلّني إلى الطريق ويعرّفني أماكن الوصول، ويقول لي: هنا يمكنك المشي، وهناك ستموتين. لكن اليوم الذي رُميتُ فيه وسط المدينة وتركت لأكتشفها جاء أخيرا، وسعيدةٌ لأنه حدث.

حلاوة الارتباك
وعرفتها، شيئا فشيئا صارت المدينة بطرقها وساحاتها تتضح لي، صرت أعرف وحدي كيف أذهب من مكان لآخر، أستقلّ حافلات النقل العام بلا تردد، وأختلط بالناس وأحادثهم، لم أعد ألتقط الصور للأماكن الغريبة وبقايا ملامح الحروب، ولا للناس ووجوههم، لم تعد تفاصيل المدينة المخيفة أو الغريبة تثير انتباهي، امتزجتُ بالمدينة وناسها، ولهجتي التي لا تشبه كلام البغداديين، صارت هجينا بين لهجات عدة، وبها فتحت أحاديث، وسمعت قصصا. هكذا، صرت جزءا من المدينة، في اللحظة التي كفّت فيها عن أن تبدوَ لي غريبة التفاصيل، ورغم أنني لم أعترف بكوني قطعة منها، فأنا أفزع حين يظنّ الناس أنني ابنتها، وأحاول دائما أن أقول من أين جئت، وكيف حدث هذا، ولماذا أنا هنا، حتى إن كان السائل لم يطلب ذلك مني، كأنني بهذا أبرر مكوثي في المدينة، وأشرح غربتي عنها، خافية، في مكان عميق داخل روحي بأنني أعرف المكان، ويملك في الذاكرة بيتا ومسكنا.
في آخر عمل لي ببغداد، كان الوصول إليه يتطلّب ثلاث وسائل نقل، والأماكن التي أمرّ بها يمتزج فيها الماضي بالأسواق الشعبية والباعة المتجولين. حين أردت الذهاب أول مرة، اختلط عليّ الأمر ووصلت مكانا آخر لا يؤدي إلى مكان عملي، ارتبكت، حولي مكان مزدحم بالناس، بالسائقين، بالباعة والمشردين والجنود والموظفين، لا أحد منهم ينتبه للآخر. لم تكن لديّ الجرأة الكافية لآخذ سيارة أجرة، فتوجهت للناس، لسائقي سيارات الكيّا، وسألتهم: كيف أصل إلى ساحة الطيران؟ دلّني أكثر من واحد على الطريق، وسلكته مترددة، وتوجهت بالسؤال لامرأة جلست جواري: هل هذه السيارة تصل ساحة الطيران؟ قالت بلى.. وبعد عشر دقائق لم أكن فيها مطمئنة تماما، كنت في ساحة الطيران، أحلّق، سعيدة بأن تضييع الطريق لم يدفعني للعودة للبيت هربا.
لكن تضييع الطريق لم يتوقف، حتى حين ظننت أنني أعرفه، مرةً، في واحد من الطرق التي عرّفتني عليها بغداد، ومنحتني بسريّة اكتشاف تفاصيله، وقفتُ، بفستان أزرق مورّد، ذاهلةً ومرتبكة: أين أتجه؟ فقد أنزلني سائق السيارة قرب ساحة التحرير، وقال لي: الطرق مغلقة اليوم بسبب حدث أمني، وهذا آخر مكان أستطيع إيصالك إليه، تستطيعين الآن المشي فقط.
أين أمشي؟ إنه طريق طويل إلى العمل، 40 دقيقة من ساحة التحرير نحو عملي كان عليّ قطعها سائرة، مارّة بعدد هائل من عناصر مكافحة الشغب الملثمين والمسلحين، حيث يتمركزون قرب نصب الحرية، متأهبين للهجوم أو الهرب، بحسب ما تمليه الظروف.
بهدوءٍ وطمأنينة وقفتُ، في واحدة من أخطر مدن العالم، وفي أكثر أماكن المدينة اضطرابا وتعرَّضا للتغيّر بين لحظة وأخرى، الآن، في قصّة طريقي، تحوّلت ساحة التحرير ونصب الحريّة الذي مرّ بأحداث هائلة على مدى عقود غيّرت وحوّلت، أثّرت وامتلأت بالدماء وبالصراخ وبالأسى، أقف أنا، بثوبٍ أزرق مورّد، أفكر حائرة بالاتجاه الذي عليّ أن آخذه لأصل إلى المكان الصحيح. الآن، في قصتي، صارت ساحة التحرير تفصيلا صغيرا في حياة فتاة لم تكن تعرف أي طريق تسلك، ونصب الحرية الصامت، الذي رأى كل شيء، وتغنّت البلاد باسمه، كان معي، هل كان حائرا؟ ربما، لكنه على الأقل، يعرف كل الطرق.
اخترت أحد الطرق وسرت فيها، غير خائفة، حتى وأنا لا أعرف الطريق إلى البيت، مم أخاف؟ وقد مررت بما مررت. قد لا أعود إلى البيت، لكن هذا ليس مهما، الطريق الآن، والتفاصيل التي أنتظرها منه، هي كلّ ما أفكر به. وقد سرت، بحقيبة رمادية على ظهري كأنني لا أفكر بالعودة، وبحذاء خفيف كان يضغط الإسفلت وأستشعر منه حكاياته القديمة، وفستان أزرق كانت وروده تخجل التصريح بنفسها وسط كل هذي الوحشة والتجهم اللذين امتلأ بهما الطريق. لكنني سرت، سعيدة بنفسي، وبالسكينة الغريبة التي حلّت عليّ. أخيرا.. لم أعد أهرب من الطرق التي لا تؤدي إلى البيت، وكان هذا سفرا طويلا جدا.
أن تألف بغداد
خمس سنوات على الطريق الثالث، على بغداد التي أتعرّف عليها بهدوء ووجل، بحذر مرة، وبجرأة أخرى، ما الذي تفكر به هذه المدينة؟ منحتني سرّ طرقاتها مرة، وأغلقت أخرى بوجهي، يغضبني أحيانا كيف لا يتذكر الناس عن بغداد إلا ما يحبونه فيها، إلا ما بقي جميلا، يخشون الكلام عن الخوف الذي يلوّث هواءها، والحزن الذي يفتت أرجاءها، وصوتها الذي يغيب، ويخفت، ويغطى..
لكنني، أفعل مثلهم، فما زلت تغمرني رائحة القداح، ويسحرني المرور بجسر الجمهورية، البيت القديم الذي يطلّ على النهر منه، وأراه من الجسر كل يوم، تغمرني ظلال الأشجار في شارع أبي نؤاس، وصوت أبياته يملأُ رأسي وحلمي، بيوتها الحزينة والمتروكة تحمل قصصها، نصُبها تخفي بحميمية ما تبقى من حكاياتها القديمة، وأشجار السدر تملك السرّ، لكن لا أحد يعرف أكثر مما يعرفه دجلة.
أفكر أحيانا، حين أسير في بغداد، وأرى كيف تستحيل صورة هذي المدينة لشيء غريب، وحشيّ، وقاس، وحزين، وأقول: لقد مرّت هذه المدينة بالكثير، وعليّ ألا أقسو عليها، أو أطلب منها ما لا يُطلب من مدينة بمثل حياتها، فأنا، حتى وإن كنت أمتلئُ بالغضب منها أحيانا، فأنا، في الحقيقة، أدرك بأنني أحبها.
ثلاث مدن فقط، لكن الحقيبة ملأى بالحكاياتـ وما زلت أقطع الدرب، أخاف أحياناً من الطرق التي لا تؤدي إلى البيت لكنني لم أعد أتراجع، صرت أعبرها. أخشى العدوَ وراء الأشياء التي تتساقط من يدي وقلبي، غير أنني في بعض الأحيان أهرع وأنقذها.. أما ملامح الطريق، فباقية والمسير طويل: تل جبل.. جبل تل.