لا شيء وحشي كحب الأرض، أرضك الأولى، يغرّبك عن كل مكان تكون فيه، يهاجمك كلما شعرت بأنك تحب أرضاً ما، بعيدة أو قريبة، تمتد يده الوحشية لتقف عائقاً بينكما، يده وأحيانا ترابه الذي يملأ رأسك والمكان الجديد، ويغطيهما. يتغلب تراب الأرض الأولى على أي تراب آخر.
يعلّقك، هكذا يمكن أن تظل إلى الأبد.
يمضي حميد العقابي هارباً من العراق خلال الحرب العراقية الإيرانية، يهرب من الخدمة العسكرية التي يراها وحشية، يذهب مثلما ذهب غيره إلى إيران، هناك يلجؤون مؤقتاً، قبل أن يتحركوا في أرجاء الأرض، والوطن يملأ رؤوسهم الخائفة، حين يعبر الحدود العراقية نحو إيران، يوضع في سجن بين كردستان العراق وإيران، سجن مرّ به عراقيون قبله، يروي ما رآه في السجن: عراقي مرّ قبله وغادر، كلماته ظلت على جدار السجن: “الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق”. في طريق الهرب من الوطن، يظل الوطن حاضراً، شمس في الرأس خلّدها السياب وهو يحن للعراق، وسجين حين كان يهرب من العراق، كارهاً له، كان يحلم به أيضاً، محباً بكل ما أمكن للحب أن يملأ القلب.
الأرض الأولى، تعلّقنا، ولا تتركنا نمضي.
تستلّنا من كل حيواتنا المحتملة، وتعذّبنا
ماذا تريد؟
في دمنا، في عظامنا، في الماء الذي يجري في عروقنا القديمة، في الأجداد الذين يراقبوننا، والجدات اللواتي يجدلن من أجسادنا ضفائر، ويسمينها: ضفيرة الأرض، ضفيرة النهر، ضفيرة العودة، ضفيرة العذاب الدائم، ضفيرة التراب، ضفيرة البيت، تتماسك كل هذه الضفائر لتعذبنا حين نبتعد، ولتصير حبلاً طويلاً، يعيدنا، يذكرنا، ولا ينفك، مهما حاولنا، حتى نعود.
لكن، من وضعها فينا من البداية؟
قبل الأجداد والجدات، قبل النهر والبيت..
ولماذا؟
لماذا لا نستطيع أن نغادر وتصير الأرض الجديدة أوطاناً لنا
وبيوتاً؟
هل كل هذا من أجل نعود؟
أم لكي نتعذب فقط في حلم العودة

مرةً، وقع عصفور من عشّه في أعلى شجرة النارنج، كان آخر النهار، الغروب قريب، ومطر مستمر منذ الصباح
كل شيء مبلل
ووقع العصفور، كان صغيراً، لا يعرف كيف يطير بعد، وقع من عشّه إلى الأرض، ولا يدري أين والديه، ولا كيف يعود إلى العش
ريشه مبلل، يتحرك بصعوبة، يقفز من مكان لآخر، حاولت الإمساك به، أردت أن أحميه، أن أضعه في مكان آخر، في صندوق أو قفص، وأطلقه فور أن يعود النهار ويتوقف المطر
خفت أن يظل وحيداً، في مطر لا ينقطع، وأن تراه القطط وتأكله
لكنه ظل يقفز من مكان لآخر.. يهرب مني
لكن إلى أين؟
كان يحاول الصعود مجدداً، يريد العودة إلى البيت، إلى العش، إلى ما يعرفه ويألفه
كل ما حوله كان موحشاً إذن، ويدي المنقذة، يدي المحاولة، كانت تخيفه، يراها وهي تريد أن تستله من الوطن، من البيت، وتأخذه إلى مكان آخر، لا يعرفه.
ألا يمكن أن يصبح المكان الجديد بيتاً للعصفور؟
العصفور الصغير اختار أن يظل يحاول، طوال الليل، يصعد، يتسلق، ويسقط،
المرة تلو الأخرى
كان راضياً، المهم، أن لا يذهب إلى مكان آخر
كان راضياً هذا المبلل أن يموت في طريق العودة إلى العش
المهم، أن لا يستبدله.
تصير المدن والقرى عند الغياب عنها شيئاً آخر، شيئا أكبر بكثير مما هي عليه، تكبر في الرأس والذاكرة، كل يوم يمضي بعيداً عنها يصيّرها أكبر، تظل تكبر أحياناً حتى تأكلنا، تنغص علينا حياتنا في المدن البعيدة والجميلة والشاسعة.
بلدة صغيرة، دون ملامح، مهمشة ومحطمة، تصبح كل العالم. وكل حياتنا تتحول إلى حلم متوحش يريد منا العودة إليها.
لماذا؟
يعود السوريون إلى مدنهم وقراهم اليوم، أراها في المشاهد، مدن صغيرة، شوارع قليلة، ساحات مثل كف اليد الواحدة، لكنها ليست في عين المغيّبين عنها هكذا..
إنني أعرف هذا، فقد كنت يوماً مثلهم حين غيّبت عن مدينتي في العراق
رأيتها في البعد كيف تكبر، تعيش حياة جديدة في ذاكرتنا فقط، تكون فيها الشخصية الرئيسية، وتؤدي أدواراً خطيرة، فنراها مدينة لها معالم يعرفها ويحبها العالم كله، فيها ساحات تضمّ البشر كلهم، وكل إنسان يراها يصرخ دهشة لجمالها وتميزها..
هذا ما تصير عليه المدن والبلدات حين نبتعد عنها
هكذا يحولها خيالنا المستوحش والحزين، يتمركز حولها، ويظنها العالم كله

مدن وبلدات تعرف بأن أهلها كانوا يحلمون بالخروج منها، بالذهاب إلى مدن بعيدة وواسعة، مدن جميلة، كانت أحلامهم تريد منهم الرحيل.
لكن كل شيء يتغير حين يأتي الرحيل جبراً، حين يستل الناس من بيوتهم الصغيرة
من قراهم وبساتينهم
من مدنهم التي يعرفونها كما يعرفون أنفسهم
حين يُخرجون منها، حزانى ومكلومين، جرحى ومقتولين
حين يتهدم البيت وتقع الشجرة وتختفي الساحة التي كانت تضمّ أحلامهم القديمة
كل شيء يتغير لحظتها
تكبر المدينة في قلوبهم، تظل تكبر، تدعوهم للعودة إليها
تعذبهم بحضورها في الكلمات والأحلام والذكريات
يرون أنفسهم في المدن التي حلموا بها، لكنهم هذه المرة، يريدون العودة إلى قريتهم الهامشية
إلى مدينتهم المتروكة
إنهم من هناك، أُخرجوا بالدم، وسيعودون يحملونه في أكفهم
يدخلون به المدينة مرة أخرى.
الحياة ليست نفسها
حين تترك أرضك الأولى وأنت تعرف أنها ما زالت هناك، تستطيع العودة إليها متى شئت
إنها بيتك الأول، حبّك الصغير
ستظل تنتظرك، وستعود.
يتغير هذا كله،
حين تتركها وأنت تدري أنها انتزعت منك، وأنك ربما لن تراها مرة أخرى
تتوحش الأرض الأولى في القلب حين تسمع هذا
حين تراك تفكر حزينا بأنك ربما لن تعود
تخرّب عليك حياتك وسعيك لبيت جديد..
تقول لك: إما أن تحاول العودة وتعود، وإما أن أتغلغل في دمك، وأقتلك بالذكرى.
هذه الأرض الصغيرة، تصير وحشاً
وحشاً من محبة حلوة وقاسية
وأنت
تختار العودة إليها، حتى وإن مقتولاً
إنه ترابها في النهاية، وصلت إليه!
لا يكره المغيّبون والبعيدون مدنهم حتى وإن كانوا يرون توحشها وتشوهها، هم لا يغمضون أعينهم عن تشوهها وانهيارها، لا، هم ينظرون إليه، يقتربون منه، ويرونه محبة، يرونه لحظة مُرّة ستمضي، لا بأس، المهم أن تظل المدينة موجودة، أن هذا التراب الذي يعرفونه لا يزال هنا، يبررون لها كل شيء، في كلماته عن بغداد، يضع الشاعر يوسف الصائغ مبرراته لها، لعاصمته الجميلة والحزينة “بغداد عاصمة لا تموت، سيظل ثمة من يلاحقها، وسيغمد كثيرون مديتهم في عنقها، لكنها لا تموت”.
يحرّك رجلٌ تراب أرضه، يحمله في كفه وينظر إليه، إنه تراب! تراب، لكنه يقول: إنه عنده أغلى من الذهب، لن يترك الأرض، ليس ذنبها ما حدث، لن يظل بعيداً، ليس قدره أن يبتعد. سيعود، مرة أخيرة إليها سيعود، يخرج المدية من عنقها، يقتل من يلاحقها، يحييها، ويعيد بيته الأول، يضيئه بصور الذين ماتوا على ترابها حالمين به، بصوتهم يقولون لن نرحل، بأغانيهم يقولون سنعود!
ها قد عاد..
إلى تراب أرضه الأولى
حيث كل وحشيتها يراها حناناً
كل دمارها لحظة وتمضي
كل حزنها تمحوه أغنية بهيجة
كل انكسارها، يتلاشى بصوت العائدين إليها
فتزهو، سعيدة.